[color:2932=cyan:2932]عندما تقدح الشمس فى الظهيرة وطيسها – تطأطئ الرؤوس خاضعة .. متوسلة لها أنا اكتفينا .. لكن الأطفال فى مدرسة "الوزان" يرفضون الانحناء .. طأطأة الرؤوس ليست مدونة فى أوراقهم .. يتقاذفون كراتهم المصنوعة من بالون ودوبار وجورب قديم وكأنهم يعلمون البالون –بعد تعلمه الطيران- الجرى .. سعداء لا يشعرون.
.. "قولوا لعين الشمس ما تحماشى" .. انتقلت تلك الترنيمة من المذياع الذى علقته "أم محمود" فى "مسمار رف المطبخ" عبر أبخرة طهو طعام الغذاء ودخلت فى فمها حينما كانت تتذوق ملح "الملوخية" .. فقد كان "محمود" بينهم .. لم تتوقف عن ترديد الترنيمة إلا بعد أن سمعت طرقاً على الباب .. فتحته .. ارتمى على الأرض أمامها .. صرخت "أم محمود".
التف من حولها الجيران مطأطئ الرؤوس .. تظهر نهودهن البضة مرتكنة فوق "كوبستات" الشرفات .. إلا هى ..!
"أم جرجس" .. تهبط درجات السلم مسرعة وهى تجرجر طرف ثوبها الأسود خلفها .. تدفع باب "أم محمود" بقوة حتى تفتحه على مصراعيه .. تمسك برأس الطفل .. تخلع .. "الإشارب" .. من تحت حجابها .. تقيس طول رأسه من أول عظمة فى قفاه وحتى ما بين حاجبيه، ثم تقيس عرضها دائرياً من الخلف إلى الأمام .. تنظر "لأم محمود" نظرة تعود بلهفتها إلى قلبها .. تبتسم .. لا تخافى إنها ضربة شمس.
أريد مفتاح "أنبوبة البوتاجاز" .. تعصب رأس الطفل "بالإيشارب" .. تلف المفتاح فى عقدة العصبة بطريقة دائرية لتضيق العصبة على رأس الطفل .. يصرخ بتلذذ .. ترتعد يد "أم محمود" حينما تضعها على رأس طفلها تشعر بالهواء البارد يخرج من رأسه .. تتعجب فتسأل "أم جرجس" .. كيف تكون ضربة شمس وتخرج من رأسه باردة؟ .. تضحك "أم جرجس":-
- أصل ابنك دمه حامى.
.. تلف "المفتاح بالعصبة" جهة اليمين من الرأس .. تكرر ما فعلته فى المرة الأولى ثم تلفها من الخلف، فاليسار حتى تتم الجهات الأربعة فينتصب الطفل جالساً .. تطلب قطعة "ورق بيضاء" إبرة حياكة .. تصنع من الورقة عروساً ثم "تخرم" فى العروسة بكل أسماء الجيران .. من عين جرجس .. وأبو جرجس .. وأم جرجس .. ومن عين نبوية .. وتوحة .. وخضرة .. وأم عباس والسيدة وعبد الهادى وكل من رآك ونظر إليك ولم يصل على النبى "محمد"، الأولة بسم الله .. والثانية بسم الله والثالثة بسم الله .. رقيتك يا "محمود" رقية "محمد بن عبد اللاه" ثم تشهق وتتمتم بكلمات قبطية لم تفهمها "أم محمود" وتشعل الورقة العروسة حتى تحترق تماماً .. تناولها "لأم محمود" بتكليف إلقاءها فى "الحوض" وتصريفها بالماء .. خارطة الطريق هى الكلمة الوحيدة التى كانت مكتوبة بمداد أسود خلف العروسة الورقية .. قرأتها "أم محمود" حتى بعد أن أصبحت رماد .. شرد ذهنها قليلاً ولم يعد إلى رأسها إلا بنداءات "أم جرجس" :- كوب ماء مذاب فيه ملعقة ملح .. تضع القليل منها فى قفا الطفل فينتفض مرتعداً رعدة صغيرة ثم تشهق وتبصق رزازاً عليه من فمها .. يهب "محمود" واقفاً .. ترفع أمه رأسها ناظرة إليه شامخاً كطود سيناء .. تعلو زغاريدها وهى تحتضن "أم جرجس" .. ترتكن "أم جرجس" بظهرها على عامود "الصالة" .. متثائبة وتقول مبتسمة:-
- وكمان ابنك كان محسود يا "أم محمود".[/size]